
يعدّ القلب المحرك الأساسي لجسم الإنسان، فهو الذي يضخ الدم المحمّل بالأوكسجين والعناصر الغذائية إلى مختلف الأعضاء، ليضمن استمرار الحياة بكفاءة وتوازن. ومع تزايد أنماط الحياة الحديثة التي تتّسم بقلة الحركة والإفراط في تناول الأطعمة المصنعة، أصبحت أمراض القلب والأوعية الدموية من أكثر مسببات الوفيات حول العالم.
يحتفى في التاسع والعشرين من سبتمبر من كل عام بـ "اليوم العالمي للقلب"، وهي مناسبة أطلقتها الاتحاد العالمي للقلب (World Heart Federation) منذ عام 1999، بهدف رفع مستوى الوعي حول أهمية الوقاية من أمراض القلب وتعزيز ثقافة الحياة الصحية. وتؤكد منظمة الصحة العالمية أن أكثر من 17 مليون شخص يفقدون حياتهم سنويا بسبب أمراض القلب والسكتات الدماغية، مما يجعل الوقاية والتغذية السليمة عنصرين أساسيين للحفاظ على صحة القلب.
وفي هذا السياق، تؤكد الدكتورة نانا فاتشيكوفنا بوجوسوفا، أستاذة وأخصائية أمراض القلب، أنّ تبنّي نظام غذائي متوازن يعدّ حجر الزاوية في حماية القلب والوقاية من الأمراض المزمنة.
أولا: مفهوم تغذية لصحة القلب
تشير عبارة «تغذية لصحة القلب» إلى مجموعة من العادات الغذائية التي تهدف إلى دعم وظيفة القلب وتقليل مخاطر الإصابة بأمراضه. هذه التغذية لا تقوم فقط على تقليل الدهون أو السكر، بل تشمل تنويع المكونات الغذائية واختيار الأطعمة التي تساهم في خفض الكوليسترول وتنظيم ضغط الدم وتحسين الدورة الدموية.
وتشير الأبحاث الحديثة، مثل تقرير جمعية القلب الأمريكية (AHA) لعام 2023، إلى أنّ النظام الغذائي القائم على الأطعمة النباتية والحبوب الكاملة يقلل من خطر الإصابة بأمراض القلب التاجية بنسبة تصل إلى 25%.
ثانيا: تناول الخضروات والفواكه يوميا
من أهم مبادئ تغذية لصحة القلب استهلاك ما لا يقل عن خمس حصص من الخضروات والفواكه يوميا، أي ما يعادل نحو 500 غرام. تحتوي هذه الأطعمة على الألياف الغذائية، والفيتامينات، والمعادن، ومضادات الأكسدة التي تعمل على خفض مستويات الكوليسترول الضار (LDL) في الدم، وتحسين وظيفة الأوعية الدموية.
الألياف القابلة للذوبان الموجودة في التفاح، والشوفان، والجزر تساهم في امتصاص الدهون الزائدة من الجهاز الهضمي وتساعد في إخراجها من الجسم. كما أنّ مضادات الأكسدة مثل فيتامين "C" و"بيتا كاروتين" الموجودة في الحمضيات والخضروات الملونة تسهم في حماية خلايا القلب من التلف الناتج عن الجذور الحرة.
ومن النصائح العملية في هذا المجال تناول تشكيلة متنوعة من الألوان النباتية يوميا: تفاحة، حبة طماطم، موزة، وجبة من الجزر أو الشمندر، فكل لون يمثل مجموعة من المركبات المفيدة للقلب.
ثالثا: الحبوب الكاملة ودورها في تغذية لصحة القلب
تعد الحبوب الكاملة مثل الأرز البني، والشعير، والحنطة السوداء، ودقيق الشوفان من المصادر الأساسية للألياف القابلة للذوبان، وهي تساهم في خفض مستويات الكوليسترول والدهون الثلاثية في الدم.
توصي منظمة الصحة العالمية بتضمين ثلاث حصص من الحبوب الكاملة يوميا ضمن النظام الغذائي، لما لها من دور فعّال في تحسين صحة الأوعية الدموية وتقليل الالتهابات الداخلية التي قد تؤدي إلى تصلب الشرايين.
كما تحتوي هذه الحبوب على المغنيسيوم والبوتاسيوم، وهما عنصران يساعدان في تنظيم ضغط الدم والحفاظ على توازن السوائل في الجسم. وتشير دراسات منشورة في مجلة التغذية السريرية الأمريكية (AJCN) إلى أنّ تناول الحبوب الكاملة بانتظام يمكن أن يقلل من خطر الإصابة بأمراض القلب التاجية بنسبة 20% تقريبا.
رابعا: اختيار الدهون الصحية في التغذية لصحة القلب
الدهون عنصر أساسي في النظام الغذائي، ولكنّ نوعها هو الذي يحدث الفارق. فالإفراط في تناول الدهون المشبعة (الموجودة في اللحوم الحمراء والزبدة) والدهون المتحولة (الموجودة في الأطعمة المقلية والمصنعة) يؤدي إلى تراكم الكوليسترول في الشرايين، مما يزيد من احتمالية انسدادها.
بالمقابل، يوصى بالتركيز على الدهون غير المشبعة الموجودة في الزيوت النباتية مثل زيت الزيتون، وزيت الذرة وزيت عباد الشمس، وزيت فول الصويا، لما لها من دور في تحسين مستويات الكوليسترول الجيد (HDL) في الدم.
كما أنّ الأسماك الدهنية مثل السلمون، والرنجة، والماكريل تعدّ مصادر ممتازة لأحماض أوميغا-3 الدهنية، التي تساعد في تقليل الالتهابات وتحسين انتظام ضربات القلب. وقد أظهرت أبحاث جمعية القلب الأمريكية أنّ تناول حصتين من الأسماك أسبوعيا كفيل بخفض خطر الوفاة الناتجة عن أمراض القلب بنسبة تصل إلى 30%.
خامسا: تقليل استهلاك السكر
من أهم ركائز تغذية لصحة القلب الحد من تناول السكريات المضافة، إذ توصي منظمة الصحة العالمية بألاّ تتجاوز كمية السكر اليومية 10% من إجمالي السعرات الحرارية، أي نحو 50 غراما في اليوم للبالغين.
يؤدي الإفراط في تناول السكر إلى زيادة الوزن وارتفاع خطر الإصابة بالسمنة والسكري من النوع الثاني، وكلاهما من عوامل الخطر الرئيسة لأمراض القلب. كما أنّ المشروبات الغازية والعصائر المعلبة تعد من أبرز مصادر السكر الخفي التي يجب الحذر منها.
يمكن استبدال السكريات البسيطة بالفواكه الطازجة أو المجففة باعتدال، واستخدام العسل الطبيعي أو محليات منخفضة السعرات عند الحاجة، مع تجنب الحلويات المصنعة قدر الإمكان.
سادسا: استخدام الملح بحذر للحفاظ على صحة القلب
يعتبر الصوديوم من العناصر الضرورية للجسم، لكنّ زيادته تشكل خطرا كبيرا على صحة القلب. فالإفراط في تناول الملح يؤدي إلى احتباس السوائل في الجسم وارتفاع ضغط الدم، وهو من أبرز العوامل التي تضرّ بالشرايين وتؤدي إلى تضخم عضلة القلب.
توصي منظمة الصحة العالمية (WHO) بألا يتجاوز استهلاك الملح اليومي خمسة غرامات فقط (ما يعادل ملعقة صغيرة). وينبغي تقليل تناول الأطعمة المالحة مثل المخللات، والرنجة، والمعلبات، والوجبات السريعة الغنية بالصوديوم.
يمكن استبدال الملح بالأعشاب الطبيعية مثل الزعتر، وإكليل الجبل، والكركم، والفلفل الأسود لإضافة النكهة دون التأثير سلبا على ضغط الدم.
سابعا: نمط الحياة المتكامل مع تغذية لصحة القلب
لا يمكن الحديث عن تغذية لصحة القلب دون الإشارة إلى أهمية نمط الحياة الصحي. فالتغذية المتوازنة وحدها لا تكفي إن لم ترافقها عادات يومية داعمة، مثل:
-
ممارسة النشاط البدني بانتظام: ينصح بممارسة 150 دقيقة من النشاط المعتدل أسبوعيا، مثل المشي السريع أو السباحة.
-
الحفاظ على وزن صحي: إذ إنّ كل زيادة في كتلة الجسم ترفع من خطر الإصابة بارتفاع ضغط الدم والسكري.
-
الابتعاد عن التدخين والكحول: فهما من أكثر العوامل التي تسرّع تصلب الشرايين وتضعف عضلة القلب.
-
التحكم في التوتر: فالتوتر المزمن يؤدي إلى زيادة إفراز هرمونات ترفع ضغط الدم وتجهد القلب.
تؤكد الأبحاث المنشورة في مجلة الجمعية الأوروبية لأمراض القلب (ESC Journal) أنّ الدمج بين النظام الغذائي المتوازن والنشاط البدني المنتظم يمكن أن يقلل من مخاطر الإصابة بأمراض القلب بنسبة تصل إلى 50%.
ثامنا: أهمية التوعية بيوم القلب العالمي
إنّ تخصيص يوم عالمي للتوعية بصحة القلب ليس مجرد مناسبة رمزية، بل هو دعوة متجددة لكل فرد لإعادة النظر في نمط حياته وتغذيته. فالعادات الغذائية الخاطئة قد تتسلل تدريجيا إلى حياتنا اليومية دون إدراك، لتؤدي على المدى الطويل إلى أمراض يصعب علاجها.
من هنا، تلعب تغذية لصحة القلب دورا محوريا في الوقاية قبل العلاج، وهي مسؤولية مشتركة بين الأفراد والمؤسسات الصحية والمجتمع بأسره. وتدعو منظمة الصحة العالمية إلى تعزيز التعليم الصحي منذ المراحل المبكرة من الحياة لضمان بناء أجيال أكثر وعيًا بأهمية القلب كرمز للحياة والصحة.
إنّ تغذية لصحة القلب ليست نظاما غذائيا مؤقتا أو حمية محددة المدة، بل هي أسلوب حياة مستدام يقوم على الاعتدال والتوازن، والتنوع في تناول الأطعمة. اتباع الإرشادات الغذائية التي قدمها أطباء القلب والجهات الصحية الموثوقة، إلى جانب ممارسة النشاط البدني وتجنب العادات الضارة، كفيل ببناء قلب قوي ينبض بالحيوية لسنوات طويلة.
فمن خلال الاهتمام اليومي بما نأكله، يمكننا أن نحافظ على أغلى ما نملك: قلب صحي وحياة مليئة بالطاقة والعافية.